حلم النجاح يراود الجميع، لكن القليل فقط لديه القدرة على تحويله إلى واقعٍ مبهرٍ ونجاح مستدام، فللنجاح ممكّناته وللإخفاق مسبّباته، هذا ما جال في خُلدي بعد أن توقفت كثيراً أمام قرار مقدِّم برنامج (خواطر) المتميّز أحمد الشقيري في أن يكون هذا الموسم (الحادي عشر) هو الموسم الأخير لسلسلة (خواطر) التي تركتْ بصمة واضحة ومميَّزة لا تُطئها عين لدى ملايين المشاهدين بكافة فئاتهم العُمرية.

لا أعلمُ سرَّ تلك المدينةِ الضبابيةِ لندن، تحتويكَ حاضراً وتفتقدكَ غائباً، تتنقلُ بين أحيائها العتيقة، وتسير في شوارعها الممتدة، وتطرب لحدائقها الغناء، وتسامِر ضفاف نهرها المليء بالأسرار، تلتحفك سماؤها، وتحتويكَ برغمِ أثقالك الحياتية، وهمومِ رسالتك لتحقيق سعادة الدارين، تخترقُ ذاكرتك، تسألك عن القريبِ والبعيدِ، عن ما حدثَ معك مُنذُ آخر لقاء، وكأنّها الحبيبُ المفتقدُ، والصديقُ المتّقدُ، ونبضُ القلبِ المضطرد.

تزداد المسافات بُعداً، ويتحرك عقرب الساعة كأبطأ ما يكون مثقلاً بلحظاتٍ مجبولةٍ بالألم، وتكتسي الدروب بالوَحشة وتتوشّح ملامح الحياة بالقسوة حين يكون الصاحب في السفر جسدٌ هزيل أنهكه المرض وقلبٌ يحمل في أسفاره وطنٌ يئنُّ لجرحٍ غائرٍ أصابه لكنه يكابر، فبعد تنقّلها في بقاع الأرض تصدح بالشعر وترتاد محافل الأدب، تذيق السامعين طعم الإنسانية وشغف الحياة ولذّة الحريّة، أصبحت تحتويها الأسرّة البيضاء وتغلق الأجفان لا إرادياً على بقعِ الضوء الساطعة فوق رأسها في غرفة العمليات لا تدري إن كانت ستفتحها مرة أخرى، ...

أجملُ المواعيدِ مع الأحباب هي تلك التي تباغتُك على حين غرّة دون أن تتجهّز لها، فكيف إن كان هذا الموعد مع الحبيب الذي لا يعلو على مكانه في القلب أحدٌ سوى (الأحدُ) سبحانه... قبل آذان المغرب بحوالي ساعة، طَرَقَت بابي بُشرى، وتلقيت دعوةٍ كريمةٍ من أحد الفضلاء من قادة المسجد النبوي الشريف، يخبرني بأنه خصّص لي مكاناً لصلاةِ المغربِ وتناولِ الإفطار في الروضةِ الشريفة، ظننتُني في البداية أحلم، فتأملتُ حروف الرّسالة مراراً وتكراراً حتى أتاني اليقين بأنني المعني بالدعوة، تلقّفتها بسرورٍ يملأ أوصالي، كالطفل الذي أخبروه أنه جاء العيد.

وقعت في غرام التميُّز، وعشت في كنفه، ونهلت من معينه الذي لا ينضب، وشربت من مائه العذب الرقراق، فأصبحت حرفتي السعي نحو الاتقان، وقيادة الركب نحو الاحسان باحتساب وبذل ذاتي في سبيل الوصول بالآخرين إلى مرافئ السعادة، برغم أن قشور الأمة أقوى من جذورها، وغذاء بطونها مقدم على عقولها، ولكن لا يزال الخير قائماً!...

تتعدد أسفارك هنا وهناك، تأخذك قدماك إلى القارات مرتحلاً في دروب الحياة، ولكن حين تجد روحك تناديك، والمكان يحتويك، والقلب ينبض بالشوق، والعقل قد ودَّع شواغله وهمومه واتحد مع الروح في معيّة الزمان والمكان، وبجوار خير الأنام، محمد - صلّى الله عليه وسلّم-؛ آنذاك تدرك أنك في حضرة خاصة، مقاماً ومكانةً وكرامةً، تعجز كلماتك أن تبوح لك بمكنون إحساسك، ونبض قلبك، وسر مدامعك.

في مصر، وبين أحضان القاهرة تحديداً، أمضيت يومين، أستنشق هواءً أنا منه وهو مني، وتخرج من ذاتي زفرات حزينة على حال شعبِ مصر العظيم في الأمس القريب، واليوم طريح الفراش، ويحتاج إلى إنعاش، علّه يتدارك شيئاً مما فاته في غده، تأمَّلت الوجوه فوجدتها شاحبة متعبة، فقلت في نفسي: ربما أنا مخطئ، وربما أجدُ أمراً آخر بين عناوين أخباره...

تتعدد مشاغل الحياة ولا يتوقف إبحارك في جداولها الممتدة، وما أن تقطع شوطاً كبيراً حتى تستفيق على ذاتك لتجدها خارج دائرة حياتك التي رسمت، وبعيداً عن نطاق اهتماماتك التي أردت، حينها تجبرك صرخات ذاتك المنهكة أن تعاود الاهتمام بها، وتختزل من أجندتك المزدحمة أياماً معدودات لتعيد لها رونقها ونشاطها وحيويتها، وقد كان.
قلت في نفسي "هذه أيامُ ذاتي وهذا زمانيَ الخاص"،...

في الرحلة قطعنا أميالاً عديدة، وأخذتنا الحياة إلى دروبٍ مديدة...
اليوم منحنى قلمي أن أقف في استراحة محاربٍ أضناه الجهد، وأدركه الإعياء؛ لكنه شاكراً وممتناً لعطايا الوهّاب، يلهج بلسان الحمد والثناء للربّ الكريم؛ الذي جاد بالعطاء، وأمدّ بالرحمة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات إِنَّا لَا نُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) الكهف30، وهو سبحانه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) غافر19، يختصّ بنعمه من يشاء، ويقسم عطاياه كما يريد؛ فيُسعد ويُشقي، ويُضحك ويُبكي ...

لعدة سنوات... ونبض القلم هو النداء والصدى... في السفر والحضر، في الحل والترحال، بين مدن العالم وأجزائه المترامية، حتى غدت تلك البقاع هي الرواية للحكاية، والمسطّرة للحدث. ولسنوات ممتدة أيضاً والعزلة عن الكثير من البشر كانت وما تزال هي أنسب خيار، وهي الوطن المختار، وحينها... ترتضي النفس السير في معيّة  القلم وحروفه، والصمت ومعانيه، وترى في ذلك سلواناً عن صحبة كثير من البشر،...

هناك لحظات في حياتنا؛ حينما نبتعد عن مشاغلنا وشواغلنا، ونجلس مع الذات؛ لنراجع ما فات، ونتأمل الحاضر بأفراحه وأتراحه؛ آنذاك نعيش مع الذات لحظات تذكّر وتفكّر بعمق وتمحيص. حضرت إلى العاصمة البلجيكية "بروكسل" مشاركاً في مؤتمرها السنوي عن التميّز، أسعدني أن يكون مقر الانعقاد خارج العاصمة، في منتجعٍ هو أقرب إلى واحة غناء،...

كتبت منذ عدة أشهر؛ كيف استطاعت الإمارات - قيادة ورؤيةً - أن تجعل من "السعادة" صناعة خدمية، مثل التعليم، والصحة، والأمن والأمان، وكان ينبض قلمي حينها؛ بمناسبة تبوّء الدولة المرتبة الأولى عربياً في مؤشر الرضا والسعادة. واليوم؛ نحن أمام قفزة جديدة في سلّم الريادة والنضج الإماراتي نحو العالمية؛ ...

جاءتني الدعوة في وقت كنت فيه في أمس الحاجة للاستشفاء من ضغوط العمل، وشواغل لا تنتهي، ومشاغل تطحننا برحاها صباح مساء؛ فلا نعلم كيف بدأ اليوم ولا كيف انتهى... كتبت من قبل عن باريس الساحرة الماكرة... واليوم أكتب عن باريس في حضرة الرفقاء الأنقياء الذين منحوا لهذه الزيارة معنى آخر وبعداً آخر وألفة أخرى... فلكل يوم طعمه ومذاقه... وفي كل مكان حضور آسر، وحديث غامر، وضحكة نابعة من القلوب،...

 

همسات مؤلمة ...!!

ماذا يحدث؟ وكيف؟ ولماذا؟

تتساءل ولا جواب، وتنادي فلا مجيب، وتتألم فلا ترياق ...

غابت الأهِلّة ... وتاهتِ الأدلّة ...

ماذا أصاب العباد!! لماذا تزايدت البغضاء والشحناء، وأوغرتِ الصدور، وتعدّدت الرايات، وضاعت الغايات، وساءت النيات...؟

تجديداً للحياة، وتطلعاً للمعرفة، قررت أن أبتعد لبعض الوقت عن ضوضاء مدننا العربية، وما تزخر به من متناقضات أغلبها سلبية، تغذيها -للأسف- هالة إعلامية، تصبّحنا وتمسّينا بأفكار مثيرة لا منيرة، ومحيّرة لا مسنيرة، تدل كلها على ردّة عقلية، وتأخر أخلاقي، وجماعات خاصمت الفكر المستنير وتمسكت بالفكرة الخاطئة، جانبت أدبيات العقل الرشيد وتفاخرت بالأعمال الواهية ...

ها أنا من جديد أرصد عافية الوطن في يوليو؛ كعهدي كل عام، بعد أن أمضي بضعة أيام في قاهرة المعز.. الخطب أكثر جللاً... الجرح أكثر ألماً... رغم روحانية الشهر الفضيل، فإن شواهد الحال لا تبعث على الاطمئنان.. من المطار وطول الإنتظار، إلى غلاء الأسعار، وأزمة السولار، وندرة الدولار، وسباق التجار في الاغتنام من كل الأوضاع، إلى البشر السائرين في الطرقات بلا انتظام...

حين تكون لديك الهمة والعزيمة والنية والمطية والرؤية والروية والسعي الحثيث إلى عمل مستدام وغرس مستدام، ثم تجد نفسك في سراديب ومتاهات بين أصوات تتعالى وأحلام تتهاوى وكلمات بلا ثوابت أو روابط وأطروحات بلا إطار زمني أو عملي أو علمي أو
عقلي أو منطقي...

آنذاك سيدي لا تملك إلا الصمت...!

في الثلاثين من يناير 2014، بلغ قطار العمر محطته الخامسة والأربعين... أقف الآن وأتأمل في غرس السنوات وحصاد الأيام والليالي والحِلّ والترحال... أحادث نفسي كثيراً عن أهم معالم ودروس الرحلة... تلوح أمامي في الأفق دروس عديدة وذكريات مديدة وشواهد ممتدة بين مدارات ونجاحات وتحديات...

‫في مجتمعاتنا سواءٌ في الحوار اليومي والحياتي‬ ‫في المداخلات والتعليقات أو في الكتابات والمحاضرات‬ ‫والندوات والأشكال المختلفة للتواصل المجتمعي المعنيّ ‫بالكلمة والمعلومة... يسترعي انتباهي أن هناك خطراً مُحدقاً بنا جميعاً وأمراً يستحق التوقف والبحث في أسبابه ودوافعه والتعامل معه بكل اهتمام... إنه تسرُّع ‫البعض في الإدلاء بمعلومات أو بيانات أو مسميات أو ‫تواريخ أو أسماء دون التيقن من المرجعيات اليقينية،...

تطالع من حولك، وتسأل وتتساءل ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ ومن هو العقل المدبر؟ من فعلها بهذا الإخراج المُبدع لتكون فوضى خلاقة؟ ماذا حدث لمنظومة القيم والأخلاق في مجتمعات حظيت بأفضل رسالة وأُرسل إليها خاتم الرسل (صلّى الله عليه وسلّم) ...؟! ماذا أصاب الناس في مقتل في معيشتهم وحياتهم وعلاقتهم ببعضهم وبمجتمعهم وفي أولوياتهم...؟!

العمر .. لحظة ... والأمل .. لحظة
البسمة .. لحظة ... والكلمة .. لحظة
اللقاء .. لحظة ... والوداع .. لحظة
الحضن الدافئ الصادق .. لحظة
الكلمة الطيبة .. لحظة
الماضي قد يمر في .. لحظة
والحاضر قد نعيشه في .. لحظة
والمستقبل قد يغازلنا .. لحظة

‫ما‬ ‫أن تطأ قدماك العاصمة البوسنية .. سراييفو‬ ‫.. وسط قطرات المطر التي تستقبلك في وداعة حانية‬ ‫ومودة لا تخطئها عين... وأنت في وسط أوروبا..، إلا وتدرك أنك في معقل الحزن .. وموطن الحزن‬ .. وبيت الحزن .. وأصل الحزن .. وثوابت‬ ‫الحزن .. ونوابت الحزن .. مطار متواضع وكأنك‬ ‫في ضواحي المدن العتيقة... موظفي الجوازات‬ ‫تقرأ في ملامحهم الحزينة أكثر مما ترى في أيديهم...

كنت أظن أن الغزل العفيف أو الصريح بين البشر،‬ ‫توقف عند زمن قيس وليلى وعبلة وعنتر... ولكن‬ ‫في تجربة الحياة أدركت أن النهر قد يغازل الغدير‬ ‫ويحتويه، فيذوبان معاً... وأدركت أن صفحات الكتاب‬ ‫قد تغازل القارئ فتهديه إبداعاً وابتكاراً... كما أدركت أن أمطار السماء قد تغازل أهل الأرض تعينم أن يمضوا في قطار الحياة بقلوب مليئة بمداد ما أقطرته السماء... ولكنني لم أكن أعرف أن المدن قد تغازل زائريها وقاصديها...

كادت دموعي أن تجري من مآقيها حين استمعت لصوته واهناً منادياً متسائلاً عني وكأنه لا يعرفني...
‫يسأل ويتساءل:‬
• من هذا الذي يسمَّى باسمي ...؟‬
• يأتيه الردّ: إنه هو وليس غير هو ...
• يعيد التساؤل: من هذا الذي يكون هو ...؟!
• يعاوده الردّ: إنه هو الذي عرفته... إنه هو الذي ارتضيته أن يكون زوجَ ابنتك منذ ما يقرب من عشرين عاماً...

تأملت حبات المطر وحدثتني نفسي... لماذا ﻻ نكون‬ ‫مثل المطر…؟! المطر مدد السماء للأرض دون أن ينتظر‬ ‫عطايا اﻷرض... المطر نقاء وصفاء لا يعرف الرياء...‬ ﻻ يعاتب أرضاً، وﻻ يشترط طرحاً، وﻻ يمتعض حالاً... ‫المطر ﻻ يفرق بين الرفقاء والفرقاء، وﻻ بين القلوب‬ ‫الوفية والقلوب الحجرية وﻻ بين القريب والبعيد...

إنها زيارتي الثانية للبوسنة والهرسك... في المرة الأولى سجل قلمي كلمات مفعمة بالحزن الدفين... وانسابت دموعي من مآقيها مصحوبة بسرعة في دقات القلب... غاضت الكلمات ثم فاضت ولم تتمكن من رصد الحالة البائسة في نهاية الأمر... أما في هذه الزيارة، ولأن الذاكرة لا تسقط الألم الدفين ولا الحزن العظيم، فقد تأملتُ شواهد عدَّة، وتوقفت عند ثقوب لا يمكن أن تخطئها العين في ثوب شعب حائر بين عالمين وهُويَّتين وقارتين واتجاهين...

في دروب الحياة نتعلم كثيراً ونرتشف من سفر التجربة رشفات تلو رشفات. تثقلنا التجارب وتصبح مصدّات الصدمات ومحركات التعامل مع الأزمات حاضرة ومستحضرة لأنها في تدريب دائم واستنفار لا يعرف الكلل أو الملل... وصلت ـ كما يسمونها ـ عاصمة النور .. باريس .. الجمعة الماضية 13 ابريل مع ساعات الغروب... بعد يوم حافل بالعمل في بروكسل...

من يراقبُ الحِراك السياسيَّ والمخاض اللا توافُقيَّ وأيادي الطرف الثاني والثالث والرابع وربما الطرف الخفي الجهنميِّ... ومن يتابع أدبيَّات العنتريات والانتحاريات واللا معقول واللا مقبول في قاهرة المعزِّ وما جاورها وعلى امتداد الساحة المصرية... حتماً سيُدرك أن الدولة أضحت ذبيحة ينهشها من كل حدبٍ وصوبٍ من كان حُبُّه تنكيلاً ورحمته تضليلاً وأقواله لا تصمد حتى الإصباح...

بينما كان خالد عماد الدين في منتصف ابريل 2012 يستعد لمغادرة مطار القاهرة متوجهاً إلى مطار شارل دي يجول في باريس ضمن رحلة مدرسية أمضى خلالها أسبوعاً في منتجع يعزز ثقافة القيادة والتفكير الإبداعي والمسؤولية والتعرف على ثقافات أخرى، توقف خالد ليلتقط ذكريات ضوئية له... وأرسل صورته لي بعد عودته... تأملته... وعدت لأتأمله جيداً... أخذت أفكر في تلك العيون الوادعة الوديعة إنها ليست بغريبة...

حالت مشاغلي وتعدد أسفاري وحدودية الوقت دون متابعة المشهد في أم الدنيا بأفراحه وأتراحه.. ولعدة أسابيع ممتدة بل شهور وأنا أحدّث نفسي بأن التحليق بعيداً عن عرين الأسد ربما يجلب معه أخبار سارة ولكن هيهات.... أمهلتني الحياة سويعات لأطالع ما فاتني في سفر الوطن المكلوم... أدركت أنه لم يفوتني الكثير... وبعد متابعة ـ ليست بدقيقة بل مشوبة بجهل وتقصير مني ـ رصدت شواهد عديدة ولكنها أليمة ومؤلمة...

من تابع ويتابع الثورة المصرية منذ انطلاقتها وحتى كبوتها، سوف يدرك أن هناك دروساً عديدة أمدتها الرحلة واستلهمتها النخبة الصامتة والصامدة. لا أدعي أنني أملك نواصي الحقيقة الغائبة والحجة الدامغة في الشأن الثوري... كما يجب أن أؤكد قبل أن أعرض أهم دروس الرحلة من وحي خطوبها، أنه لم تتح لي الفرصة كي أكون راصداً مستداماً لما جرى ويجري في شرايين المد الثوري ومخاضه منذ الميلاد،...

تكاد تنادي عليك أوجاعك النفسية والعضوية وأنت تتابع أخبار أم الدنيا، فالكل تحت راية الوطن موجوعون والكلمات حروفها الآهات والأنين. وتستشعر أن المريض أصابه ليس فحسب الهرم والسأم والضيق، ولكنه أضحى يصارع الموت كي ينجو مما هو أشد فتكاً... أفهم عدم انتظار رحلات الطيران للناقل الوطني مصر للطيران، ولكن لا أفهم أن تصبح رحلات الشركة مثل قطار الصعيد انتظار بلا عودة وذهاب لا تعرف معه إياباً...

رغم غياب السنين ما زال حاضراً... لم أفارق معيته أينما ذهبت... أعيش فى جنبات صوته الدافئ... ترتسمه عيناي في جسده الهزيل في أواخر صفحات العمر... ذاكرتي مضيئة بأجمل الصور والمعاني الجميلة والخصال النبيلة التي تعلمتها منه... آه من الافتقاد ! ... أبحث في عشب الاشتياق علني أجد بين ثناياه زهور العمر المنصرم وذكريات الاحتضان... ولكن سرعان ما تتفتح العينان على واقع الغياب وسط السراب وأرض اليباب...

نعود أدراجنا ... نبحث عن أيام الصبا ...
أين شمسنا الغائبة ...؟ أين شموعنا الخافتة ...؟
أين مشاعلنا المتوهجة ...؟ أين الأحضان الدافئة ...؟
أين ولّت ساعات الأصيل ...؟ أين رحلت ؟!
تنادينا غـُرباتنا ... شمسُكم لم تغب ... ولكن غابت أوطانكم ...

حين تهرع إلى القنوات الفضائية المصرية باحثاً عن الجديد في ملامح الوطن الجريح وثقوب ثوبه المكتسي سواداً... ترى عيناك وتسمع أذناك أحاديث صادرة عن (أنقياء) و(أوصياء) و(حكماء) تارة... وفى الوقت نفسه .. (خبلاء) و(جهلاء) تارة أخرى، وتتراوح الأطروحات بين طرد السفير الإسرائيلي وإلغاء اتفاقية كامب ديفيد...

في رحلة العودة من عاصمة الضباب .. لندن .. توقفت لأيام معدودة في أم الدنيا .. قاهرة المعز .. مُلبياً بعض دعوات رفقاء درب المهجر ممن لم ألتق بهم لسنوات عديدة... لنسترجع معاً أيام الصبا... وسنوات البراءة... في وطن كان يعيش في قلوبنا رغم مرضه ووهنه وعضال دائه... لنصحو ذات إصباح فنكتشف أن الوطن لم يكن سوى حلم لم يكتمل عقده... وأمل طال انتظاره...

من يظن أن عقارب الساعة تعود إلى الخلف فهو مخطئ، حينما تجري أشعة رنين مغناطيسي على جسد الوطن الكسير، يتضح لك تعدد البؤر التي يتمركز ويتمترس بها جيل نشأ وتربى على أن الأفضلية للأقدمية... والرتبة الأعلى هي الأولى بالمشورة والأولى بالقيادة والأولى بالتبعية المطلقة... وأن الهيئات والوزارات وكبريات مؤسسات الدولة إن قاد دفتها ربان سفينة لم يتجاوز الستين قيل عنه أنه من القادة الشباب !! أو الجيل الجديد... وحينما تمعن النظر في نتائج الأشعة تتعجب وأنت لا ترى للشباب أثراً ولا مكانة في مسيرة أرض الكنانة...

أمضيت في قاهرة المعز أياماً أعاني من حمم يوليو وصيفه القائظ المستعر في قاهرة المعز ... طيب الله ثراها ورحمها الله رحمة واسعة... أضحت مقهورة بعد أن كانت قاهرة... وأصبحت أسيرة بعد أن كانت آسرة للعقول قبل الأفئدة... وباتت تقتات بعد أن كانت تحتاط ومحط القوات والجيوش والعتاد...

حقاً ما أغرب المشهدين ... بلد فتى وليد في الأسرة الدولية لم يتجاوز عمره الأربعين .. يحتفل اليوم الخميس الثاني من ديسمبر 2010 بعيد ميلاده التاسع والثلاثين وسط فرحات من القلوب، ووفاء للشيوخ وأصحاب العهود، وتلاحم لا يعرف النفاق ولا الرياء بين القائد والمواطنين، وتقطع البلاد من شرقها إلى غربها ومن أقصى الشمال إلى الجنوب لتجد عرساً ممتدّاً هنا وهناك، ...

في صبيحة الثاني والعشرين من رمضان الموافق الثاني من سبتمبر للعام 2010... وفي ثياب بيضاء معدودة القطع، بسيطة غير ثمينة، ضمن حقيبة متواضعة تذكرنا برحلتنا الأخيرة في دنيانا... بدأت خطواتي الأولى في رحلتي نحو طيبة الطيبة... المدينة المنورة... لأنعم بالقرب من شفيعنا وقدوتنا وأسوتنا صلّى الله عليه وسلّم وصحبه الكرام... فما أطيبها من أرض وما أفضلها من أيام مباركات من الليالي العشر الأخيرة من شهر الرحمات والغفران، راجياً رحمة من لا توصد أبوابه، لعلّي أحظى بنفحة عفو في إحدى الليالي الوترية، ومبتهلاً أن أكون ضمن العتقاء في ليلة القدر...

TOP