رغم غياب السنين ما زال حاضراً... لم أفارق معيته أينما ذهبت... أعيش فى جنبات صوته الدافئ... ترتسمه عيناي في جسده الهزيل في أواخر صفحات العمر... ذاكرتي مضيئة بأجمل الصور والمعاني الجميلة والخصال النبيلة التي تعلمتها منه... آه من الافتقاد ! ... أبحث في عشب الاشتياق علني أجد بين ثناياه زهور العمر المنصرم وذكريات الاحتضان... ولكن سرعان ما تتفتح العينان على واقع الغياب وسط السراب وأرض اليباب...

تكاد تنادي عليك أوجاعك النفسية والعضوية وأنت تتابع أخبار أم الدنيا، فالكل تحت راية الوطن موجوعون والكلمات حروفها الآهات والأنين. وتستشعر أن المريض أصابه ليس فحسب الهرم والسأم والضيق، ولكنه أضحى يصارع الموت كي ينجو مما هو أشد فتكاً... أفهم عدم انتظار رحلات الطيران للناقل الوطني مصر للطيران، ولكن لا أفهم أن تصبح رحلات الشركة مثل قطار الصعيد انتظار بلا عودة وذهاب لا تعرف معه إياباً...

من تابع ويتابع الثورة المصرية منذ انطلاقتها وحتى كبوتها، سوف يدرك أن هناك دروساً عديدة أمدتها الرحلة واستلهمتها النخبة الصامتة والصامدة. لا أدعي أنني أملك نواصي الحقيقة الغائبة والحجة الدامغة في الشأن الثوري... كما يجب أن أؤكد قبل أن أعرض أهم دروس الرحلة من وحي خطوبها، أنه لم تتح لي الفرصة كي أكون راصداً مستداماً لما جرى ويجري في شرايين المد الثوري ومخاضه منذ الميلاد،...

ينتاب المرء شعور عميق بالأسى حين يُدرك أن أسهم الوطن الحقيقية أضحت (حمراء) خاسرة في بورصة الاستثمار البشري وأن أسهم الأمم الأخرى أصبحت قيادية ويتخطفها المستثمرون بينما أسهمنا البشرية زهد فيها الأقربون قبل الأبعدين... أليس أمراً محزناً؟... إن أخذتنا آلة الزمان وعدنا للبدايات، سنجد أن...

حالت مشاغلي وتعدد أسفاري وحدودية الوقت دون متابعة المشهد في أم الدنيا بأفراحه وأتراحه.. ولعدة أسابيع ممتدة بل شهور وأنا أحدّث نفسي بأن التحليق بعيداً عن عرين الأسد ربما يجلب معه أخبار سارة ولكن هيهات.... أمهلتني الحياة سويعات لأطالع ما فاتني في سفر الوطن المكلوم... أدركت أنه لم يفوتني الكثير... وبعد متابعة ـ ليست بدقيقة بل مشوبة بجهل وتقصير مني ـ رصدت شواهد عديدة ولكنها أليمة ومؤلمة...

بينما كان خالد عماد الدين في منتصف ابريل 2012 يستعد لمغادرة مطار القاهرة متوجهاً إلى مطار شارل دي يجول في باريس ضمن رحلة مدرسية أمضى خلالها أسبوعاً في منتجع يعزز ثقافة القيادة والتفكير الإبداعي والمسؤولية والتعرف على ثقافات أخرى، توقف خالد ليلتقط ذكريات ضوئية له... وأرسل صورته لي بعد عودته... تأملته... وعدت لأتأمله جيداً... أخذت أفكر في تلك العيون الوادعة الوديعة إنها ليست بغريبة...

من يراقبُ الحِراك السياسيَّ والمخاض اللا توافُقيَّ وأيادي الطرف الثاني والثالث والرابع وربما الطرف الخفي الجهنميِّ... ومن يتابع أدبيَّات العنتريات والانتحاريات واللا معقول واللا مقبول في قاهرة المعزِّ وما جاورها وعلى امتداد الساحة المصرية... حتماً سيُدرك أن الدولة أضحت ذبيحة ينهشها من كل حدبٍ وصوبٍ من كان حُبُّه تنكيلاً ورحمته تضليلاً وأقواله لا تصمد حتى الإصباح...

في دروب الحياة نتعلم كثيراً ونرتشف من سفر التجربة رشفات تلو رشفات. تثقلنا التجارب وتصبح مصدّات الصدمات ومحركات التعامل مع الأزمات حاضرة ومستحضرة لأنها في تدريب دائم واستنفار لا يعرف الكلل أو الملل... وصلت ـ كما يسمونها ـ عاصمة النور .. باريس .. الجمعة الماضية 13 ابريل مع ساعات الغروب... بعد يوم حافل بالعمل في بروكسل...

TOP