حين تتعدد خيارات الإنسان، تجده يقف في مفرق الطرق، فإما أن يملِكَ الدنيا، وإما أن تملِكه وتستحوذ عليه ويغدو رهين قوائم مزدحمة بخيارات المأكل والمشرب والملبس واقتناء المزيد، فإذا ما وقع في شباك الثانية، انشغل بالقشور ونسي الجذور وأمعن بالمظهر وأعرض عن الجوهر واثّاقل إلى الأرض عن الغاية السماوية من وجوده...

احتضنت دبي مؤخراً على مدار يومين المحفل السنوي الإعلامي على منصة "منتدى الإعلام العربي" في نسخته السابعة عشر. تناولت أجندة المنتدى أبرز التحديات والتهديدات التي تُكابدها الصحافة الورقية التقليدية من جانب، والطموحات التي يتطلع إليها الإعلام الرقمي الذكي التفاعلي البصري من جانب آخر...

وحدهم القادة الاستثنائيون من يحيلون الجزئيات المترامية إلى كُلٍّ متكامل، وينقلون المفاهيم المحورية من مراحل عمريّة مؤقتة إلى عجلة استدامة تمرّ على كلّ محطّات العمر، لذلك شرع قادة الإمارات قانون القراءة الوطني مع نهاية عام القراءة في 2016، لتكون الدولة الأولى، السّباقة في ترسيخ قيمة القراءة تعزيزاً للثقافة، وبناء للوعي، وتنمية للقدرات الذهنية والفكرية لمواكبة العصر الرقمي المتسارع،...

كثيرون هم العظماء الذين خلدت أسماؤهم بين دفات الكتب، لكن القليل منهم من سكنت ذكراهم نبض القلوب، وظلت حضوراً يصاحب الشمس في شروقها ولا تعرف الغروب. فبصماتهم حاضرة آسرة، وسيرتهم تعبق الوجود عطراً. ولأن للعطاء رجالاً على مر الأزمان، فقد آثرت أم الدنيا أن يكون زايد، طيب الله ثراه، حاضراً كل صباح مع ملايين المصريين عبر شمسه الساطعة بتحفة...

«الخليج ليس نفطاً»، كلماتٌ مأثورة للمفكر الكويتي محمد الرميحي؛ وهي كذلك ربوع الكويت العامرة، ليست مجرّد نفط، بل فكرٌ وحضارة وكرمُ أخلاقٍ وميناءُ إنسان وسلام. اليوم، والكويت تحتفي بأعيادها الوطنية استقلالاً وتحريراً، تأخذني الذاكرة إلى شيَمِ أهلها وشواهِد من طيبهم وإحسانهم، وأنا بمدينة دالاس بولاية تكساس الأميركية قبل سنوات عدة،...

ليس أشد من غربة اللغة بين أهلها، وشكوى حروفها ومعانيها ومبانيها، من خيبات الصياغة اللغوية المهنية التي تستتر بين ثنايا ما نتصفحه كل يوم من إصدارات في شكل مراسلات، أو مذكرات، أو تقارير، أو أحكام، أو أبحاث أو دراسات، فاللغة هي وعاء الفكر، لها أصولها وقواعدها، فكيف إذا كانت تلك اللغة ما سُطرت به آخر رسالات السماء...

عشقي للمسرح ليس له حدود؛ فأينما تطأ قدماي يكون وجهتي واستراحتي وسر سعادتي، لأنه زاخر بخزائن التجربة الإنسانية التي ستظل تشغل البشرية ما بقيت الحياة. لهذا عاشت مسرحيات العبقري الإنجليزي شكسبير الذي رحل منذ أكثر من 400 عام، ولا تزال تعيش معنا قصة "الملك لير" ومأساة "عطيل" وأسئلة "هاملت"...

على «جزيرة السعديات» تتربع تحف معمارية فريدة تبدو كأنها عائمة على البحر، وتحت قبة وزنها 7 آلاف طن، تجتمع حضارات العالم وتروي 12 فصلاً مثيراً عن حكاية الإنسان على مرّ الأزمان، فتستكشف حلقات الوصل بين الأمم تجسدها 600 قطعة فنية من عصورِ ما قبل التاريخ، مروراً برحلة عبر الحضارات المتعاقبة، وصولاً إلى إبداعاتِ فنانين معاصرين في...

سويعاتٌ أحظى بها كلّ عامٍ في ربوع التراث الإماراتي بزيارتي لـ «مهرجان الشيخ زايد التراثي»، والتميّز الذي شهدته في إصداره الثامن هذا العام حرّك كل ذرّة عشقٍ في داخلي لهذا البلد الذي يحتضن تنوعاً ثقافياً ومنظومة حضارية لما يزيد على 200 جنسية، فأطلّ علينا تحت شعار «أرض الإمارات ملتقى الحضارات»، وما زاد رونق المهرجان تزامنه مع مئوية ميلاد المؤسس - طيّب الله ثراه...

أربعة أعوامٍ على آخر ابتسامة ارتسمت على ملامح الدكتور عبد الرحمن السميط، رحمه الله، بعدما استفاق من غيبوبته الأخيرة في منتصف مثل هذا الشهر من عام 2013، لتبتهج أساريره بسماع بُشرى صدور الاعتراف بجامعة الأمّة من قبل لجنة التعليم العالي في كينيا، لتكون أول جامعة إسلامية أفريقية، استودع بعدها جمعيته «العون المباشر» التي انتشرت في 29 دولة أفريقية، ثمّ سلّم الروح ومضى.

عجائب زماننا في ازدياد، وإحداها تكمن في لغز العطاء المشروط عند البعض، فمن وصلت منزلة العطاء غير المحدود لديه دون حساب للمكاسب والمغانم واضعاً نُصب عينيه فضيلة الإحسان والإيمان بقِصَرِ الرحلة الأرضية، أصبحت عملته نادرة؛ بل تكاد تضمحِلّ وتتلاشى لولا الخيرية التي تنعم بها أمتنا إلى يوم الدين. وكثيراً ما نتساءل:...

لا يحتاج المرء إلى باخرة أو قاطرة أو طائرة ليكون في حضرة صوت صديق صادق وصدوق، وأمين ونبيل من شواهد الزمن الجميل. تكفيك دقائق معدودة في مكالمة واحدة لتسترجع طفولتك من خزائن ذاكرة النسيان، وتستحضر صفحات العمر المنصرم لتجدد حياتك وأمانيك بروح وثابة خفاقة وسط طواحين الحياة وصخب المدائن...

ما إن يلمع الهلال في عتمة السماء مبشّراً بإقبال الشهر الكريم، حتى تستنير بنوره وتبتهج بقدومه وتحتويك نفحاته وتناديك نسائم رحماته، وتلهج بالحمد أن قد بلّغك؛ وتدرك يقيناً ما يغمرك من خير وما تلوح أمامك من فُرص، وكأنّك غادرت للتوّ عالمك المعتاد وعانقت عنان السماء روحاً وقلباً وتضرّعاً وتقرّباً...

لم تكن لحظات التفجير الفاجعة لكنائس إخواننا الأقباط سوى غابة شوك ينزف تحتها جرح القلب، ولم يخطر ببال ضابط الأمن المسلمة التي تقف على باب الكنيسة لتحمي شركاء الوطن، أنها ستكون أولى ضحايا الإرهاب الأسود، ودعت معها مصر نحو 50 شهيداً في الأسبوع الماضي،...

في فلسفة قيادة النفس، لاتزال كلمات الدكتور مصطفى محمود، «قاوم ما تحبّ وتحمّل ما تكره»، تلقى صداها في شغاف الروح، وتشقّ طريقها في غياهب النفس لتستقر في الأعماق، لتدلّك على خلاصة الرحلة. فحين يتوّجك الله مع أهل الصفوة ويصطفيك في ركب القليل، تكون قد فزت فوزاً عظيماً؛ فدرب المحن الذي يختبر تجلّدك وتحمّلك في طيّاته المنح،...

 حين لاح على أعتابها نور خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، احتفى أنصار المدينة المنورة بأوّل عاصمة في الإسلام، واليوم على وقع تلك  الأصداء، نحتفي بها مجدداً عاصمة للسياحة الإسلامية لعام2017، لتكون أيقونة العواصم، ودرة المدن، وسمت الوقار، وراحة القلوب؛ لها في فؤاد المسلمين مكانة، ولاسمها حين يتناهى على الأسماع مهابة،...

يتوارون بعبقريتهم خلف جدرانٍ شاهدة على إبداعاتهم، لا نشعر بوجودهم حتى يدركهم خريف العمر وتتساقط أوراقهم الواحدة تلو الأخرى، تاركين الساحة شبه عقيمة، لا وريث لهم يُبقي فتيل العطاء مشتعلاً، ولا نذكرهم إلّا بعد المرور على نبأ وفاتهم وتلاوة مقالات التأبين على أرواحهم، فننكبّ على أعمالهم ونطالعها بنهم،...

مع بداية عام جديد وتأمل لما فات وتفكر فيما هو آت، ندرك أن الميثاق الحياتي مهما تعددت السنوات وتباعدت المحطات عنوانه «عابرون»، حيث يخالجنا الحنين، وأيّام خوال أمضيناها في واحات الحياة وبريق الأفكار وشغف العيون ودفء القلوب وصدق مكنونات النفوس. مع العام الجديد نستحضر من الذاكرة مقاعد المدرسة والجامعة وساحات العلم تجمعنا،...

ترصد العين أحداثاً جِساماً يمر بها وطننا العربي، إلا أن ما نشهده من بصمات إبداعية استشرافية، يُحيي فينا العزم ويخرجنا من ضيق اليأس إلى رحابة الأمل، هذا ما ترجمته قمة المعرفة في دورتها الثالثة لهذا العام والتي عُقدت مؤخراً في دبي تحت شعار «المعرفة: الحاضر والمستقبل» عُزفت على منصتها التفاعلية سيمفونية المبادرات المعرفية...

الإمارات... تضيء غداً شمعتها الخامسة والأربعين، كي تهدي للعالم قلادة عقد وضاءة حباته ثمان، تسطع «ألف» الإمارات الاستباقية والقيادة الاستثنائية والرقي الحضاري والفخر والانتماء والوفاء والولاء والتفرد في المبادرات والإنجازات الوطنية والعالمية، والتي وضع المؤسس زايد - طيب الله ثراه - قدوة قادة بناء الأوطان لبناتها الأولى، وها هي الراية التي غرسها الآباء المؤسسون عالية في بيت متوحد،...

قراءة تحليلية متأنية للمشهدين الإقليمي والعالمي بكل اللغات والأبعاد والمجالات والتحديات والأخطار والتقلبات، تجعلك أمام حقيقة أساسية وهي حتمية العمل الفعال المرتبط بالنتائج الواقعية لتعزيز وجودك المستدام، أو مغادرتك للمشهد إلى الأبد بفعل عوامل الهدم المتزايدة وطوفان الفوضى وحسابات عالمية معقدة من كل اتجاه،...

 

تختلف لغات العالم، وتبقى الابتسامة هي لغته الموحدة التي تشكل فارقًا لك في مطارات الوصول والمغادرة، خاصة إذا كانت رحلتك للاستشفاء والاسترخاء بعد طول عناء في عام مليءٍ بالحكايا والخفايا وبما يقال وما لا يقال. مع إشراقة يومٍ عظيم تتنزل فيه الرحمات، ويغفر الله فيه الزلات، ويتجاوز عن السيئات على صعيد عرفات؛ وصلت مبكرًا إلى مطار العاصمة النمساوية (فيينا) في طريقي إلى مركز صحي دولي...

حياتنا رحلة ممتدة متعددة الصفحات بين «أيام معدودات» و«أيام معلومات»، والرحلة الإبراهيمية أسمى وأقدس الرحال الأرضية نحو المراتب السماوية تقرباً لرب البرية جل في علاه. مبتدأها أفئدة لبَّت نداء مولاها حين أذن بالحج، فأتت تسعى من كل فجٍّ عميق إلى البيت العتيق، تصدح الحناجر بالذكر، ينزعون عنهم كل عِرق وطيف ولون، ويذوب كل شيء في التوحيد بنداءٍ رباني، يؤدون شعائر واحدة، على قول: «الله أكبر» يخرُّون على نواصيهم ساجدين راجين ساعين،...

أخلاقُنا... شجرةٌ مثمرةٌ وارفةٌ، أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، طَلْعُها نضيدٌ، وطَرْحُها متفرِّدٌ مستدامٌ مختلفٌ ألوانه، منه إحسانُ العملِ، واحتسابُ الأجرِ، وسماحةُ الوجهِ، وحلاوةُ اللسان، وتعايُش الأضدادِ، والمودَّة بين الأقران، منه البذلُ والعطاءُ والصدقُ والولاءُ والوفاءُ والانتماءُ، وروحٌ تخفضُ الجناحَ للإنسان، وتعتلي الطموحَ، وتبادر بالمشاركات المجتمعيَّة، وتتفاعلُ بإيجابيَّة، تتجاوز التحدِّيات وتنطلق بإبداعٍ وابتكارٍ. أخلاقُنا دستورٌ متكاملةٌ ثوابتُه في آياتٍ قرآنيَّة وسُنَّة محمَّدية وفي سيرة خير المرسلين، مصداقًا لقول رسولنا الكريم -صلّ الله عليه وسلّم-: «إِنََّما بُعِثْتُ لأُتَِّممَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ»، وقوله: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا»...

 

تمرُّ أمَّتُنا بليلٍ بهيمٍ يعجُّ بالأحداث، تعصفُ بها ريح الفِتَ، تضربُ جسدَها العليلَ أمواجٌ شديدةُ الاضطرابِ، وكثيرٌ في حَلَكة الظلام يعتلي المنصَّات، ويتناحرُ على القنواتِ والوسائطِ الإعلاميَّة، والعقلاء قليلٌ ما هم. أطنانٌ من الأخبار والتحليلاتِ تُبَثُّ على مدار الساعة، يختلط فيها الغثُّ بالسَّمِينِ والصحيحُ بالمغلوطِ والواقعُ بالمزيَّفِ والحقيقةُ بالخداعِ. واقعٌ يفرض على العقل المتَّزن الوقوفَ طويلً أمام تسونامي المعلوماتِ الانتقائيَّة،...

 لم أكن أعلم أنني على موعدٍ استثنائي مع راحة البال وصفاء الذهن. تفاصيل رحلتي كانت تجمع بين ما يرسم علامات الاستفهام على صفحات وجهي وما يدخل البهجة والسرور إلى نفسي، حيث هبطت بي الطائرة يوم الأحد الموافق (12 شوال 1437) في مطار الطائف بالسعودية، لأجد نفسي في حضرة واحة طبيعية، تباغتني على غير المتوقع نسائم باردة، فالأجواء صيفية، والحرارة لا تتجاوز العشرين مئوية مساء، وكأنها رياح ربيعية أبت ألا تفارق تلك الربوع الخيالية...

 ثمانيةًُ حروفٍ وضَّاءة تشكّل كلمةَ وطنِ الريادةِ والسعادةِ «الإمارات». تأمَّلتُ المائدةَ الرمضانيَّة الإماراتيَّة الزاخرةَ بوجباتٍ فكريَّة وإعلاميَّة وثقافيَّة ومجتمعيَّة مختلفةِ الطَّعْم والمذاقِ تُدخِل السرورَ على الناظرين والمتابعين، فرصدْتُ ثمانيةَ أطباقٍ شهيَّة غنيَّة ما بين إطلالاتٍ ومبادراتٍ ومجالسَ وحملاتٍ وبرامجَ رسمَتْ معالمَ تلك المائدةِ المتفرِّدة لإسعادِ الصائمين الطامحين في خيراتِ ونفحاتِ ذلك الشهرِ الفضيلِ...

حين تشدُّ الرِّحالَ بوَثَاق الهمَّة وتحُثُّ السيرَ بزاد العزيمةِ ونُصْبَ عينيك الرؤيةُ، ترنُو إليها برويَّة وتسعَى نحوها بجدِّية لإضافة قيمةٍ مجتمعيةٍ وبصمةٍ حياتيةٍ، وأثناء ترحالك تعبُ سراديبَ ومتاهاتٍ علِقَتْ فيها أصواتٌ تتعالَ وأحلامٌ تتهاوَى وكلماتٌ بلا ثوابتَ وأطروحاتٌ بلا إطار علميٍّ أو عقليٍّ أو منطقيٍّ، ووعودٌ دون عهودٍ، وتربُّصٌ مُستَعِرٌ وتسويفٌ مستترٌ. آنذاك سيدي لا تملك إلا الصمتَ...!

ما إن تُيمِّم وجهَكَ قاصدًا الحرمَيْ الشريفَيْ حتى تبدأ دقاتُ قلبِك بعزف أعذبِ الألحان، ويداعبُ روحَك سرورٌ خفيٌّ تجهل كُنهه وتعجبُ كيف تَشكَّل في داخلك؟! أسفارٌ تجوبُ بك شتَّى بقاعِ المعمورةِ، إلا أنَّ وقعَ هذا المكان عليك مختلفٌ، بعظيم هيبَتِه وعُمْق رسالتِه وطِيبِ صُحبَتِه ونفحاتٍ ربانيَّة تسكن في أرجائه. يرتفعُ مؤشِّر هِمَّتك في رحاب الحرمَيْ بوقودِ الحب لتساهم بجهدٍ متواضعٍ ولَبِناتٍ معرفيَّة تتشاركُها مع سُفراء الخدماتِ في أطهر بقاع الأرضِ...

لولا اللغة لاقفر الوجود، وانزوى نبض التعبير، ولما استوى الفكر السويُّ على سوقه، ولما اشتد عوده؛ فبدون اللغة يتحجّر العقل الإنساني ويتجمد. اللغة وعاءٌ يعجُّ بالكلمات، ويُضفي على الكون بهاءً، ويمنحه حياةً وجمالاً. بالكلمات نبدع فكراً ونترنم طرباً ونهيم عشقاً ونذوب حباً ونغزل شعراً ونسرد نثراً، ومن وحي محكم التنزيل نلهجُ شكراً وننسج الدعوات حمداً ونستشهد بأطول كلماته والدهشة تعترينا والابهار يحتوينا: «فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ» [الحجر: 22]...

منذ أن منّ الله علينا بالدعوة الكريمة من الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام لأتشرف بحضور غسل الكعبة لهذا العام، وأنا في شوقٍ وشغف لخوض هذه التجربة الفريدة. سرت قبيل بزوغ الفجر بساعات قليلة من جدة إلى أم القرى والروح تسابق الجسد، والنبض يتسارع كلما اقتربت من مشارف الديار المقدسة...

غرق الكون في الظلمة والجهل لمئات الأعوام، إلى أن استيقظ على حدث عظيم اهتزت له أركان الوجود؛ ما بين المشرق والمغرب بمولد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ فضحكت أسارير الخيرِ واستنار العقل وبكى الشرّ وتجهّم الجهل وعمّ الضياء الأرجاء. لم يمضِ على ميلاد الهدى سوى حقبة من الزمن حتى شهد العالم أعظم الأخلاق والفضائل، ووصلت رسالة الإسلام السمحة إلى قصور الشام، ليواصل حملها التابعون إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولتطرق البشارة المحمديّة كل حدب وصوب.

عندَ المساء قد انهمرْ.. وخيرُهُ النَّاسَ غمرْ.. وفوقَ خدِّ الأرضِ مرَّ.. فاستبشر به الشَّجَرْ.. مطر مطر مطر..
في حديثٍ للذَّات مع الذّاتِ.. حدّثتني نفسي، وأخذتُ أردد تلك الكلمات التي تصفُ الأجواءَ من حولي، فتساءلْتُ: لماذا لا نكونُ مثلَ حبَّاتِ المطر في عطائِها ونقائِها؟؟ فالمطرُ مددُ الإلهِ ينزلُ من السَّماءِ إلى الأرضِ دونَ أن ينتظرَ حسابات أحد إلّ أوامر الأحد... المطرُ نقاءٌ وصفاءٌ لا يعرفُ الرِّياءَ...

خلال عطلة الأسبوع أحببت أن تكون نزهتي العقلية، وشهيقي الأدبي استثنائياً غير تقليدي، وجدت ذاتي في رحلة «سفاري» خاصة، في رواية دافئة الذكريات، قريبة إلى شغاف القلب، من تلك الأنواع الأدبية التي تألفها قبل أن تألفك، وتجد ذاتك في معيّتها من الصفحة الأولى، لا تبارحك إلا وقد قطعت الرحلة بأكملها؛ إذْ هي من مذاق خاص.

مع دقات الساعة التاسعة والنصف مساءً يقترب موعد فتح الستار الأحمر المخملي لخشبة المسرح القومي، أقدم مسارح المحروسة الذي يبعدُ عدّة أمتارٍ عن صخَبِ ميدان العتبة في قاهرة المعزّ، ليبدأ العرض المسرحي الغنائي (ليلة من ألف ليلة وليلة)، كان هذا خلال زيارتي القصيرة مؤخراً إلى أم الدنيا.
أول ما وقعت عيناي عليه، كان بيت الشعرِ الشهير لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي يتوّج ستار المسرحِ بخطٍ ذهبيٍ أصيل: «إِنَّمَـا الأُمَـمُ الأَخْـلاقُ مَا بَقِيَـتْ.. فَـإِنْ هُمُ ذَهَبَـتْ أَخْـلاقُهُمْ ذَهَبُـوا».

هُنَاكَ أَصوَاتٌ تعيدُ للنّفسِ حياتَها...
تبثُّ في الرّوحِ آمالها...
لا يَُمَلُّ حديثُها وعَذبُ كَلِمَاتِهَا...
كَم تَِحنُّ أَروَاحُنَا لِصحَابِهَا...

هُنَاكَ أَصوَاتٌ كَالنَّدَى في رِقَّتِها وهَمسِهَا...
تُشعِرُنَا بِوُجُودِنَا...
إِن غابَت.. استَشعَرنَا غُربَتَنَا...
تِلكَ أَصوَاتٌ تَعشَقُهَا تَفَاصِيلُ أَيّامِنَا...

عرجتُ في يومٍ واحدٍ على مشهدين، في حيزٍ مكانيٍّ لا تتجاوز حدوده العاصمة الإيطاليّة (روما) لأجد ذاتي بين عوالمَ مختلفةٍ وثقافاتٍ متباعدةٍ وخلجاتِ أرواحٍ بعضها تنعمُ بالانسجام والاستقرار، وأخرى أينما ارتحلت تصحب معها فوضاها العارمة وعجزها عن التطوير إلى الأفضل لخير الدارين...

نواصل معكم في الجزء الثاني، ونبدأ من حيث انتهينا في الجزء الأول، استيقظنا في صبيحةِ اليومِ الثالثِ على أشعّةِ الشّمسِ الحانيةِ تداعبُ جبهاتنا وتدعونا إلى النّهوض بهمّةٍ عاليةٍ لننتقلَ إلى محطّتنا الثالثة، إذ صعدنا على متن الحافلة التي بدأت تشقُّ الطريقَ وسطَ غاباتِ الصنوبرِ وأشجارِ الليمونِ والزيتون، متأمّلين التلالَ الممتدّة كتعرّجات وجنتي طفلٍ حديث الولادة يتشبّثُ بحضنِ البحرِ الذي يلتفُّ حوله بإحكامٍ في مشهدٍ بديعٍ لا ترغبُ أن ترفعَ ناظريك عنه...

يمنحنا الصيف بضعة أيام لتكون نزهة للأرواح وراحة للأبدان، في هذه الإجازة افترشت البحر والتحفت السماء وسامرت القمر وسامرني، ليكون بيتي سفينةً بحجِم مدينة حيث دفعت بنفسي وأسرتي الصغيرة لقضاءِ إجازةٍ قصيرة في حضرةِ البحرِ وما حوى من أسرار، وبين أحضانِ الطبيعةِ وما تبوحُ به من تدبّرٍ وأفكار، سرنا على بركةِ الرحمن باسم الله مجريها ومرسيها...

تسألني: من أنت؟ كيف أنت؟ لم أنت أنت؟
أقول: أنا لم أعد ما كنت عليه...
تسألني: ما الخطب؟
أقول: خطب جلل يا صديقي... الانتظار... ما أقساه...!
موت وحياة متحدين.
تسألني: أي انتظار؟! حدثني عن الانتظار...
أقول: صحراء جرداء... لا زروع أينعت ولا ماء... تنادي
فيرتد إليك الصوت... أنت والصدى معيّة واحدة!
تسألني: ولم الانتظار؟!

TOP